ملخص الخطبة |
|
1- فضل العبودية ومكانتها. 2- أركان العبودية. 3- شمولية العبودية لجميع مناحي الحياة. 4- تعريف العبودية وبيان شروطها. 5- مفاهيم خاطئة حول مفهوم العبودية. |
|
الخطبة الأولى |
|
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا أن الله تعالى قد خلقكم ـ إنسكم وجنكم ـ لعبادته، قال تعالى: وهو تعالى ذكره وتقدست أسماؤه لما خلقنا لذلك لم يتركنا هملاً بلا بيان ولا توضيح للعبادة التي خلقنا لها وأمرنا بها، بل بين لنا معنى العبودية لله سبحانه ووضح سبيل ذلك، فبعث الرسل مبشرين ومنذرين، وإلى عبادته وحده داعين، قال تعالى: وهذه الدعوة التي جاءت الرسل بها أمرٌ فطر الله تعالى الخلق عليه، ومع ذلك انقسم الخلق حيال دعوة الرسل إلى قسمين، كما قال تعالى: أيها المؤمنون، إن العبودية لله تعالى التي هي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وسرور النفوس مبنية على ركنين عظيمين لا تصح إلا بهما، الأول: محبة الله تعالى، والثاني: الذل له سبحانه. قال ابن القيم رحمه الله: وعبـادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان فكلما امتلأ قلب العبد لله تعالى حبًا، وله سبحانه ذلاً وتعظيمًا، ولأوامره وشرعه انقيادًا وعملاً، كملت فيه العبودية لله تعالى. وهذه العبودية التي دعت إليها الرسل أمر عام واسع رحب، يضرب برواقه على جميع مناحي الحياة وشؤونها، ويتبين هذا واضحًا جليًا من خلال إجالة النظر في آيات الكتاب الحكيم، ومن خلال مطالعة دواوين السنة، فإن الله تعالى خاطب عباده المؤمنين بالأمر والنهي في أمورٍ كثيرة تتعلق بمعاشهم وحياتهم. ويمكن أن يتضح شمول العبودية لجميع مناحي الحياة من تعريف أهل العلم والفقه لمعنى العبادة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". فعلى هذا تكون العبادة شاملة للأعمال القلبية كمحبة الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له والصبر لحكمه، وهي شاملة للأركان الشعائرية من الصلاة والزكاة والصيام والحج وتطوعاتها وما يتبعها، وهي أيضًا شاملة للعلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية والأخلاق والفضائل التعاملية، وهي تشمل أيضًا الأحكام القضائية التشريعية والشؤون التجارية والاقتصادية والسياسية. فالدينونة لله تعالى والعبودية له سبحانه دائرة واسعة تحيط بجميع جوانب الحياة وفروعها، من آداب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة الحكم. وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى، بل وعرفه المشركون والمخالفون لدعوة الإسلام في ذلك الوقت، ففي صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخراءة ـ أي: قضاء الحاجة ـ، فقال: أجل نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام وقال: ((لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار))[1]. والمتأمل في سيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم يرى ويشهد أنهم كانوا يراجعون النبي وأصبحنا نرى ونشاهد من وحد الله بالقصد فلم يعبد إلا الله تعالى، لكنه لم يتابع النبي وكلا الفريقين ضل الطريق وأخطأ السبيل؛ فإن الله تعالى أمرنا بعبادته وحده سبحانه فقال تعالى: فالواجب على العبد الراغب في تحقيق عبوديته لله تعالى أن يطهر قلبه ويصفيه ويخليه من كل شائبة شرك أو قصد لغير الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه سبحانه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله فعليكم ـ عباد الله ـ بالإخلاص والمتابعة للنبي فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الإخلاص والمتابعة، وأن يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |
|
الخطبة الثانية |
|
أما بعد: فإنه قد تقدم لنا في الخطبة الأولى صورتان من صور الانحراف الذي طرأ على الأمة في مفهوم العبودية لله تعالى. ومن صور الانحراف في مفهوم العبودية لله تعالى أن بعض من أعمى الله بصيرتهم وأضلهم عن سواء السبيل تصوروا أو صُوّر لهم أن عبادة الله تعالى هي تلك الأقوال والأعمال التي تضبط علاقة العبد بربه من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج أو تلاوة وذكر فحسب، أما ما عدا ذلك من الأمور فليس لها بالعبادة أو العبودية لله تعالى صلة، بل هي موكولة إلى الناس يفعلون فيها ما يشاؤون ويحكمون ما يريدون. ولا شك أن هذا فهم مبتور مغلوط دلّت نصوص الكتاب والسنة على بطلانه، بل دل العقل على ضعفه وضلاله؛ إذ كيف يستقيم في الأذهان أو يصح عند أولي العقول والأبصار أن يعلم النبي المختار وقد خلّف هذا الفهم المغلوط انحرافاتٍ خطيرةً توشك أن تخرج بأصحابه عن سبيل أهل الإسلام. ومن هذه الانحرافات الجسام أننا سمعنا من يقول ويكتب: إن الدين والعبودية لله ليس لها دخل في التجارة أو الاقتصاد أو السياسة أو الإعلام أو غير ذلك من مجالات الحياة، بل آل الأمر بكثير من أصحاب هذا الفكر الضال المنحرف أن فصلوا الدين عن الحياة، وجعلوا الكتاب والسنة اللذين هما سبيل النجاة ينظمان علاقة العبد بربه ولا يتجاوزون بهما هذا الحد، بل لم يقتصر الأمرُ على ذلك فرأينا أصحاب هذا الانحراف الذين ضرب النفاق قلوبهم بجرانه ينكرون على كل من يصدر عن السنة والقرآن في سياساته أو اقتصادياته أو أحكامه أو أنظمته أو سائر شؤون حياته، ويقذفون بأقذع الأسماء ويصفون بأبشع الأوصاف كُل من دعا إلى تحكيم الكتاب و السنة، فتارة يسمون المتمسكين بالكتاب والسنة في دق الأمر وجليله رجعيين، وتارة ظلاميين، وتارة أصوليين، وتارة متطرفين أو إرهابيين، فحسبنا الله ونعم الوكيل. أيها المؤمنون، احذروا هؤلاء المضللين المنافقين؛ فإنهم من أعظم ما يفسد الأديان ويخرب الأوطان، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم فهما سفينة النجاة، وقد أمر الله بذلك فقال لنبيه ولا يخدعنكم هؤلاء المنحرفون بألاعيبهم وأساليبهم وتضليلاتهم، فهم أشبه من ينطبق عليهم وصف النبي فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الاهتداء. |