الصوارف عن الفطرة (الشيطان)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
لقد أخذ الشيطان على نفسه أغواء بني آدم منذ أن سجد الملائكة لأبينا آدم ، وأبى إبليس ذلك ، وتأمّل هذا الحوار بينه وبين ربّه – سبحانه وتعالى - : " قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولاتجد أكثرهم شاكرين" [الأعراف ( 16 – 17 ) ] ، وقوله في الآية الأخرى : "ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله "[النساء ( 119 )] .
قال ابن القيم - رحمه الله - : " فتغيير مافطر الله عباده عليه من الدين ؛ تغيير لخلقه ، والخصا وقطع آذان الأنعام ؛ تغيير لخلقه أيضاً ، ولهذا شبّه النبي - صلى الله عليه وسلّم - أحدهما بالآخر ، فأولئك يغيّرون الشريعة ، وهؤلاء يغيّرون الخلقة ، فذلك يغيّر ماخُلقت عليه نفسه وروحه ، وهذا يغيّر ماخُلق عليه بدنه"[1] .
ونتيجة لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد بإغواء بني آدم وتزيين الشر لهم ؛ فها نحن أولاء نجده مع الطفل الصغير حين ولادته ، ألم يقل رسو الله – صلى الله عليه وسلّم - : " مامن بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد ، فيستهلّ صارخاً من مسّ الشيطان غير مريم وابنها ..." [2] ؟ .
فهذا حين الولادة ، ثم ماذا بعد ذلك ؟ جاء الحديث ليبين لنا أن الشيطان لم يترك بني آدم ، ففي حديث عياض – رضي الله عنه - الآنف الذكر : " ... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ..." ، ثم ماذا بعد ذلك ؟ جاء الحديث ليزيد الأمر وضوحاً ، ففي حديث صفية – رضي الله عنها - : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم "[3] ، وعموم الحديث يدلّ على أن بني آدم كل بني آدم معرضون لوسوسة الشياطين ، حتى الأنبياء لم يسلموا من وسوستهم ، بيد أن الله عصمهم من وسوستهم وثبتهم على الحق ، ففي حديث عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم – " مامنكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجن ، قالوا : وإياك يارسول الله ؟ قال : وإياي ، إلا أن الله أعان عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير"[4].
قال النووي : " فأسلم : برفع الميم وفتحها ، وهما روايتان مشهورتان ، فمن رفع ؛ قال : أسلم أنا من شره وفتنته ، ومن فتح ؛ قال : إن القرين أسلم ، من الإسلام وصار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير "[5] .
والشياطين منها شياطين الإنس ، ومنها شياطين الجن " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً" [الأنعام ( 112 )] ، ولذلك كان بعض السلف يخشى من شياطين الإنس أشد من خشيته من شياطين الجن ، فهذا مالك بن دينار – رحمه الله- يقول : " إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ؛ ذهب عني شيطان الجنّ ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً "[6] .
ولذلك ؛ أمرنا الله – سبحانه وتعالى - بالاستعاذة من نزغات الشياطين في كل وقت ، فقال : " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله "[فصلت ، ( 36 )] ، كما أمرنا بالاستعاذة عند تلاوة كتابه فقال : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم "[النحل ، ( 98 )] ، وذلك حتى يتفرغ المرء لتدبّر التلاوة .
إن الشياطين أحد أسباب الإغواء ، وبالتالي ؛ فهي أحد أسباب صرف الناس عن الفطرة السليمة الصحيحة ، وكلما كان المرء محصناً من الشياطين ؛ كان أبعد منها ، وأول وأولى وسائل التحصين ذكر الله تعالى ، واقرأ - إن شئت – قوله تعالى : " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناّ فهو له قرين " ، فذكر الرحمن واق – بإذن الله - من وسوسة الشيطان ، ومن ذكر الرحمن ؛ تلاوة سورة البقرة في المنزل ، حتى لا يقربه الشيطان .
إن المرء إذا كان جسمه قوياً ؛ صار محصناً من الأوبئة والأمراض - بإذن الله تعالى - فلاتصل إليه ، وهذا ينطبق على التحصين بالذكر والأوراد وغيرها من تلاوة القرآن وطاعة الله بعمومها ، وإذا كان الأمر كذلك ؛ فقمين أن يعصمه الله من همزات الشياطين : " رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون " .
وللحديث بقية – إن شاء الله – عن الصارف الأخير من صوارف الفطرة وهو الهوى في الحلقة القادمة .
[1] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ، لابن القيم ، ص : ( 575 ) .
[2] صحيح البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قوله تعالى : " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً " ، رقم : ( 3431 ) .
[3] صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء أو قبل ذلك للخصم ، رقم ( 7171 ) .
[4] صحيح مسلم ، كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس ، وأن مع كل إنسان قريناً ، رقم ( 2814 ) .
[5] شرح صحيح مسلم ، للنووي : 17 / 157 .
[6] الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي : 7 / 45 .