الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فقد أشرت في آخر الحلقة الماضية إلى مسألة نسخ القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى مكة المكرمة ، كما تكرر ذلك في بعض مسائل العبادة ، ففي الحج ، كانت قريش لاتغادر المزدلفة إلا بعد شروق الشمس ، وكانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن جعل مغادرة مزدلفة حينما يسفر جداً .
بل إن رسول الله - صلى الله عليه و آله وسلم - قد نهى عن التشبه في مواضع كثيرة ، منها حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ، قلنا : يارسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن؟"[1].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : " لاتقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، فقيل : يارسول الله : كفارس والروم ؟ فقال : ومن الناس إلا أولئك ؟ "[2] .
قال ابن حجر – رحمه الله - : " قال عياض ( رحمه الله ) : الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر ؛ تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه " [فتح الباري : 13 / 301] .
ولما كان الأمر كذلك ؛ غضب اليهود حتى قالوا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - : " ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه " [3].
إن هذا الشعور من اليهود يدل – بلا شك – على كثرة الأمور المشروعة مخالفتهم ، بل لقد جاءت المخالفة في الأوقات والأماكن ، فلاتجوز موافقتهم في أيام أعيادهم ، ولا في مكان من أماكن عبادتهم .
وإذا كان النهي جاء عن المشاركة في المكان والزمان ؛ فلئن يأتي بالنهي بالمشاركة في العمل ، من باب الأولى لأنه أشد وأعظم .
إن مسألة التميز مسألة ضاربة في أعماق التاريخ ، فكل الحضارات والأمم سعت إلى شيء يميزها عن غيرها ، ليضمن لها مكاناً ومكانة بين الأمم بحق أو باطل ، بل وأحياناً بالباطل المؤطر بالقوة فقط !.
وحين ندعو إلى التميز فليس ذلك ضرباً من الرجعية أو التخلف ، كما أنه ليس مزيداً من التشدد والانغلاق ، إننا حين ندعو إلى ذلك ندعو للعودة إلى الأصول النقية الطاهرة ، التي يمكن أن تؤسس لعزة المسلم حيث كان .
في عصرنا هذا تعود جميع الأمم والحضارات لتفتش عن أصولها ، وربما كان كثير منها لا يملك أصولاً يعود عليها ، بل هي سلالات هجينة من هنا أو هناك ، جاءت نتيجة تلفيق بين أكثر من نحلة وملة ، وحضارة وأمة ، وإذا كان أولئك يبحثون عن أصولهم ؛ أوليس الأجدر بالمسلم الذي يملك تراثاً وحضارة ضاربة في أعماق الزمن أن يعود إلى أصله مستمسكاً به ؟!
ربما ظن بعض الناس أن هذا ضعف وانهزام ، بيد أن الملاحظ أن الناس تحترم من كان واثقاً بنفسه حتى لو خالفهم في أمورهم ، لشعورهم أنه يمتلك قوة يدافع بها .
ويبقى أن أشير إلى أن الاعتزاز بالدين أمر يحتاج إلى قدر من الاطلاع والقراءة في المسائل الشرعية ، وقبل ذلك تدبر القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن من يلج هذا المجال ؛ سوف يطلع على عظمة دينه في جوانبه المختلفة ، وهو أمر كفيل بأن يجعل المرء معتزاً بدينه بل داعياً إليه من منطلق الند والقوة ، لا من منطلق الهزيمة والتخاذل .
[1] أخرجه البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب : قول النبي صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم ، برقم : 7320 .
[2] المصدر السابق : رقم : 7319 .
[3] أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن ، برقم : 302 .