هدهد التوحيد (2)
* بقلم / عادل بن عبد الله باريان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فقد ذكرنا في الحلقة الماضية بداية قصة الهدهد وإرسال سليمان عليه السلام الرسالة إلى هؤلاء المشركين عبدة الشمس . وذكرنا أنهم أرسلوا بهدية إلى سليمان عليه السلام ليغروه بالدنيا .
فعند وصول هذه الهدية لنبي الله سليمان عليه السلام تذكرَ ما أعطاه الله سبحانه وتعالى من النعم والخيرات وتسخير الجن والإنس والطير وتعليم الله له منطق الطير ولغاتها قال بعد أن تذكر هذه النعم وعلى رأسها نعمة التوحيد والهداية والإيمان لعبادة الرحمن
و ترك عبادة الهوى والشيطان قال عليه الصلاة والسلام (فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) [النمل : 36] . لأنكم تحبون الدنيا ، وتعيشون من أجلها .
وهكذا نبينا عليه الصلاة والسلام لما رغبه كفار قريش في الدنيا وخوفوه من مخالفتهم قال لعمه ( يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر - حتى يظهره الله أو أهلك فيه - ما تركته ) فليس هدف الأنبياء الدنيا والسلطان والجاه وإنما هدفهم إعلاء كلمة الله تعالى .
ثم أمر سليمان عليه السلام بإرجاع الهدية إليهم وتوعدهم على عدم استجابتهم له حين قال لهم في رسالته التي أرسلها مع " هدهد التوحيد " ( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) [النمل : 31] .
و مما توعدهم به لعدم استجابتهم لدعوة التوحيد والاستسلام لله تبارك وتعالى أنه قال له (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [النمل/37] ولكن هذه المرحلة جاءت بعد الدعوة الكلامية ، فهو عليه الصلاة والسلام لم يبغتهم بالقتال ولم يفجأهم به ، بل أرسل لهم الدعوة بالإسلام أولاً .
ثم قال سليمان عليه السلام لجنوده (يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) [النمل : 38] .
و قد أخبره الهدهد أنَّ لها عرشاً عظيماً حين قال ( إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) [النمل : 23] .
ثم انبرى لطلب سليمان عليه السلام بالإتيان للعرش اثنان :
أما الأول : فهو عفريتٌ من الجن وهو القوي النشيط من الجن وقال له : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) [النمل/39] .
فالظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران ذهابا وشهران إيابا، ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله، وبعده قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد، وقد يكون دون ذلك أو أكثر.[1]
و أما الثاني : فهو الذي وصفه الله تعالى بأنه الذي عنده علمٌ من الكتاب حيثُ قال : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) [النمل/40].
فلما جاء الذي عنده علم من الكتاب بالعرش توجه نبي الله سليمان عليه السلام بحمد الله تبارك وتعالى وعلمَ أنَّ هذا من فضل الله تعالى عليه فأسندَ النعمة إلى ربه تبارك وتعالى .
ثم بعد ذلك قال سليمان عليه السلام ( نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ) [النمل/41، 42] .
ثم بعد أن رأت عرشها العظيم عندَ نبي الله سليمان ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [النمل/44] .
و الصرح : هو القصر وكل بناء مرتفع ، والممرد أي: المبنى بناء محكما أملس ، وقوله { مِنْ قَوَارِيرَ } أي: زجاج. وتمريد البناء تمليسه .
والغرض أن سليمان، عليه السلام، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة؛ ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله، تعالى، وجلالة ما هو فيه، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله وعَرَفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، فأسلمت لله، عز وجل، وقالت: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي: بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس من دون الله، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده، لا شريك له، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا .[2]
وبإذن الله تعالى نكتب في الحلقة القادمة فوائد من قصة طائر التوحيد فنسأل الله السداد والتوفيق
[1] - انظر تفسير السعدي - (ج 1 / ص 605) .
[2] - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 197) .