وإجابة النبي صلى الله عليه لكلا الشكاتين عين الحق ، والحكمة ، والمصلحة ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " تأمّل الحكمة البالغة في إنزال المطر بقدر الحاجة ، حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه ، وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها ، أقلع عنها ، وأعقبه بالصحو ، فهما أعني الصحو والغيم يعتقبان على العالم ؛ لما فيه صلاحه ، ولو دام أحدهما كان فيه فساده ، فلو توالت الأمطار لأهلكت ما علي الأرض ، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار ، وعفنت الزروع والخضروات ، وأرخت الأبدان ، وحشرت الهواء ، فحدثت ضروب من الأمراض ، وفسد أكثر المآكل ، وتقطعت المسالك والسبل ، ولو دام الصحو لجفت الأبدان ، وغيض الماء ، وانقطع معين العيون ، والآبار والأنهار ، والأودية ، وعظم الضرر ، واحتدم الهواء ، فيبس ما على الأرض ، وجفّت الأبدان ، وغلب اليبس ، وأحدث ذلك ضروباً من الأمراض عسرة الزوال ، فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم ، فاعتدل الأمر ، وصح الهواء ، ودفع كل واحد منهما عادية الآخر ، واستقام أمر العالم وصلح " (9).
سادساً : انتهازه صلى الله عليه وسلم للفرصة في الدعوة والوعظ ، حيث بادر حين شكوا إليه القحط والجدب إلى التحذير مما هو أعظم عليهم من ذلك ، وهو الفتنة بالسراء ، حيث تصبّ الدنيا على الناس صبّاً ، فإنّ الفتنة بذلك أعظم ، والاختبار به أكبر ، واللهُ وحده هو المسؤولُ أن يثبّتنا على دينه ، ويرزقنا حمده وذكره على كلّ حال.
والله تعالى أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
تقييد : الشيخ رائد بن حمد السليم
قسم السنة كلية الشريعة وأصول الدين
جامعة القصيم
30/ 11 / 1429 هـ
(1) أخرجه البخاري ( كتاب الجمعة ، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة ، ) ح ( 933 ) ، وبنحوه مسلم ( كتاب صلاة الاستسقاء ، باب الدعاء في الاستسقاء ، 2 / 612 ) ح ( 897 ).
قزعة : القَزَع : قطع من السحاب ، رقاق 0 ( لسان العرب 8 / 271 ) .
الجَوبَة : هي الحُفْرة المسْتَديرة الواسعة ، ومعنى الحديث : أي حَتَّى صَار الغَيْم والسحابُ مُحيطاً بآفاق المدينة 0 ( النهاية لابن الأثير 1 / 310 ) 0
قناة : وادٍ من أودِية المدينة ، عليه حَرْثٌ ، ومالٌ ، وزرْع ، وقد يقال فيه وادِي قَناة ، وهو غير مَصْروف 0 ( النهاية لابن الأثير 4 / 117 ) 0
(2) أخرجه أبوداود ( كتاب الصلاة ، باب رفع اليدين في الاستسقاء ) ( 1 / 303 ) ح (1169) ، وابن خزيمة ( 2 / 336 ) وصححه ، وإسناده متصل ، ورجاله ثقات ، غير أنه أعل بالإرسال .
مريئاً : مستعار من استمراء الطعام ، وهو ذهاب ثقله ، وكِظَّته على المعدة .
مَريعاً : المريع هو المخصب ، الناجع في الماشية 0 ( منال الطالب في شرح طوال الغرائب لابن الأثير 102 ).
وقال شمس الحق آبادي : " قوله ( مريئاً ) : بفتح الميم والمد ويجوز إدغامه أي هنيئا محمود العاقبة لا ضرر فيه من الغرق والهدم ، ( مريعاً ) : يروى على وجهين - بالياء والباء - ، فمن رواه بالياء جعله من المراعة وهو الخصب ، يقال منه : أمرع المكان إذا أخصب ، ومن رواه مربعاً كان معناه منبتاً للربيع ، قاله الخطابي " ( عون المعبود 4 / 23 ) .
(3) أخرجه ابن ماجه ( 1 / 404 ) ح ( 1269 ) وأحمد ( 5 / 279 ) ح ( 17599 ) ، وأبوداود الطيالسي ( 1 / 166 ) ، وعبد بن حميد ( 1 / 145 ) ، ورجاله ثقات ، غير أنه معلول بالإرسال .
(4) أخرجه ابن ماجه ( 1 / 404 ) ح ( 1270 ) ، والطبراني في الكبير ( 12 / 130 ) ، وابن عبد البر في التمهيد ( 23 / 433 ) ، وقال عنه البوصيري : صحيح ، ورجاله ثقات ( مصباح الزجاجة 1 / 151 ) ، وهو معلول بالإرسال .
ويتلخص مما سبق أن هذه الأحاديث الثلاثة – حديث جابر ، وحديث كعب بن مرة ، وحديث ابن عباس – كلها معلولة بالإرسال ، وهي مراسيل يشد بعضها بعضاً ، وتدل أن لألفاظ دعاء الاستسقاء أصلاً ، والله تعالى أعلم .
(5) أخرجه أبوداود ( كتاب الصلاة ، باب رفع اليدين في الاستسقاء 1 / 303 ) ح (1173) ، وصححه ابن حبان ، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وإسناد أبي داود رجاله ثقات ، خلا خالد بن نزار ، فإنه صدوق يخطئ ، ويغرب ، والقاسم بن مبرور ، فإنه صدوق .
وقد قال ابن حبان في خالد بن نزار : " يغرب ويخطئ " ، وهذا الحديث من غرائبه.
قوله : ( الكِنّ ) أي ما يَرُدّ الحَرَّ والبَرْد من الأبنِيَة والمساكن ، وقد كَنَنْتُه ، أكُنُّه ، كَنًّا ، والاسْم الكِنُّ 0 ( النهاية لابن الأثير 4 / 206 ) .
وهذا الحديث له شواهد في خروجه صلى الله عليه وسلم للاستسقاء دون ذكر الشكوى ، منها :
أولاً : عن عباد بن تميم ، عن عمه عبدالله بن زيد بن عاصم ، قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يستسقي ، قال : فحول إلى الناس ظهره ، واستقبل القبلة يدعو ، ثم حول رداءه ، ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة 0
أخرجه البخاري ، ومسلم ، وهذا لفظ البخاري ( صحيح البخاري ، كتاب الاستسقاء ، باب كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس ، 1 / 323 ح 1025 ، صحيح مسلم ، كتاب صلاة الاستسقاء ،5 / 267، ح 894 )
ثانياً : عن هشام بن إسحاق بن عبدالله بن كنانة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج متبذلاً ، متواضعاً ، متضرعاً ، حتى أتى المصلى ، فلم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدعاء ، والتضرع ، والتكبير ، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد .
أخرجه أبوداود ، والنسائي ، وغيرهما (سنن أبي داود ، باب جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها ، 1 / 301 ، ح 1165، سنن النسائي ، كتاب الاستسقاء ، باب الصلاة بعد الدعاء ، 3 / 180 ، ح 1518 ).
(6) أخرجه الإمام أحمد ( 6 / 226 ) ، ح ( 21037 ) وأبو داود الطيالسي ( 1 / 358 ) ،وإسناده متصل ، ورجاله ثقات ، عدا يزيد بن أبي زياد ، فإنه ليس بالقوي .
ولكن تابعه محمد بن فضيل بن غزوان ، الضبي ، وهو صدوق ، حسن الحديث ، من أهل العلم ، وقد رمي باالتشيع ( الجرح والتعديل 8 / 57 ، تهذيب الكمال 6 / 478 ، التقريب 889 ) .
(7) النهاية لابن الأثير ( 3 / 73 ) .
(8) فتح الباري لابن حجر ( 2 / 653 ).
(9) مفتاح دار السعادة لابن القيم ( 1 / 224 ) .